.تفسير الآية رقم (27):
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: أَرُونِي أَوْثَانَكُمُ الَّتِي أَلْحَقْتُمُوهَا بِاللَّهِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ كُفْرًا مِنْكُمْ، وَشِرْكًا وَافْتِرَاءً، وَقَوْلُهُ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَرَوْهُ إِيَّاهَا تَبَيَّنَ بِرُؤْيَتِهَا أَنَّهَا جَمَادٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَاتَّضَحَ بُعْدُهَا عَنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَظَهَرَ لِكُلِّ عَاقِلٍ بِرُؤْيَتِهَا بُطْلَانُ عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَإِحْضَارُهَا وَالْكَلَامُ فِيهَا، وَهِيَ مُشَاهَدَةٌ أَبْلَغُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا غَائِبَةً، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُهَا، وَكَمَا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَمَرَهُمْ أَنْ يُرُوهُ إِيَّاهَا لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ عِبَادَتِهَا، فَقَدْ أَمَرَهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنْ يُسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهَا؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِأَسْمَائِهَا يَظْهَرُ بِهَا بُعْدُهَا عَنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَبُطْلَانُ عِبَادَتِهَا لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ إِنَاثٍ حَقِيرَةٍ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} الْآيَةَ [4/ 117]، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [13/ 33].وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: شُرَكَاءَ حَالٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا مِنْ رَأَى الْعِلْمِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَ شُرَكَاءَ مَفْعُولٌ ثَالِثٌ لِ أَرُونِيَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَكُونُ أَرُونِيَ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَيَكُونُ: شُرَكَاءَ مَفْعُولًا ثَالِثًا، أَيْ: عَرِّفُونِي الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَلْ شَارَكَتْ فِي خَلْقِ شَيْءٍ، فَبَيِّنُوا مَا هُوَ وَإِلَّا فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا، اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَلَّا رَدْعٌ لَهُمْ، وَزَجْرٌ عَنْ إِلْحَاقِ الشُّرَكَاءِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أَيِ: الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ بِشَوَاهِدِهِ مِرَارًا.
.تفسير الآية رقم (28):
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [7/ 158]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} اسْتَشْهَدَ بِهِ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى جَوَازِ تَقَدُّمِ الْحَالِ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ؛ كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:وَسَبْقُ حَالِ مَا بِحَرْفِ جَرٍّ قَدْ أَبَوْا وَلَا أَمْنَعُهُ فَقَدْ وَرَدْ قَالُوا: لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، أَيْ: جَمِيعًا، أَيْ: أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُجْتَمِعِينَ فِي رِسَالَتِكَ، وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ بُرْهَانَ، وَلِذَلِكَ شَوَاهِدُ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ؛ كَقَوْلِ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيِّ:
فَإِنْ تَكُ أَذْوَادٌ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ ** فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغًا بِقَتْلِ حِبَالِوَكَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
لَئِنْ كَانَ بَرْدُ الْمَاءِ هَيْمَانَ ** صَادِيًا إِلَيَّ حَبِيبًا إِنَّهَا لِحَبِيبُوَقَوْلِ الْآخَرِ:
تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ** بِذِكْرِكُمُ حَتَّى كَأَنَّكُمْ عِنْدِيوَقَوْلِ الْآخَرِ:
غَافِلًا تَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ ** فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِوَقَوْلِهِ:
مَشْغُوفَةٌ بِكَ قَدْ شُغِفْتَ وَإِنَّمَا ** حُمَّ الْفِرَاقُ فَمَا إِلَيْكَ سَبِيلُوَقَوْلِهِ:
إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ الْمُرُوءَةُ نَاشِئًا ** فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ شَدِيدُفَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ: فَرْغًا، أَيْ: هَدَرًا، حَالٌ وَصَاحِبُهُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ الَّذِي هُوَ بِقَتْلٍ، وَحِبَالٌ اسْمُ رَجُلٍ. وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي: هَيْمَانَ صَادِيًا، حَالَانِ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَجْرُورَةِ بِإِلَى فِي قَوْلِهِ: إِلَيَّ حَبِيبًا. وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ: طُرًّا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِعَنْ، فِي قَوْلِهِ: عَنْكُمْ، وَهَكَذَا وَتَقَدُّمُ الْحَالِ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ مَنَعَهُ أَغْلَبُ النَّحْوِيِّينَ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} إِلَّا رِسَالَةً عَامَّةً لَهُمْ مُحِيطَةً بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا شَمِلَتْهُمْ، فَإِنَّهَا قَدْ كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ.وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ جَامِعًا لِلنَّاسِ فِي الْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ فَجَعْلَهُ حَالًا مِنَ الْكَافِ، وَحَقُّ التَّاءِ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ كَتَاءِ الرَّاوِيَةِ وَالْعَلَّامَةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ حَالِ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ فِي الْإِحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ تَقَدُّمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْجَارِ، وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذَا الْخَطَأَ ثُمَّ لَا يَقْنَعُ بِهِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي لَهُ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالْخَطَأِ الثَّانِي، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْخَطَأَيْنِ، اه مِنْهُ.وَقَالَ الشَّيْخُ الصَّبَّانُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْأَشْمُونِيِّ: جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَافَّةً صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: رِسَالَةً كَافَّةً لِلنَّاسِ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ بِأَنْ كَافَّةً مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَعْقِلُ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ كَطُرًّا وَقَاطِبَةً، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَا ذَكَرَهُ الصَّبَّانِ فِي كَافَّةً هُوَ الْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} الْآيَةَ [6/ 116]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [10/ 49].قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، إِلَى قَوْلِهِ: إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا. ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا بَيَانٌ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [2/ 166]، وَبَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ} [40/ 71]، وَقَوْلِهِ:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [13/ 5]، وَقَوْلِهِ:
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [69/ 32]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [6/ 123]، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} الْآيَةَ [23/ 44].
.تفسير الآيات (35-37):
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [18/ 36].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} الْآيَةَ.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ} الْآيَةَ [25/ 17- 18].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [17/ 94].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [17/ 15].
.تفسير الآية رقم (45):
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهُ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ أَقْوَى، وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخَافُوا مِنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَهْلَكَ الْأُمَمَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُمْ، وَلَمْ يُؤْتُوا، أَيْ: كُفَّارَ مَكَّةَ، مِعْشَارَ مَا أَتَى اللَّهُ الْأُمَمَ الَّتِي أَهْلَكَهَا مِنْ قَبْلُ مِنَ الْقُوَّةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} [40/ 82]، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الرُّومِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [30/ 9].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [23/ 70].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [11/ 29].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [17/ 81].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [21/ 78]، فِي مَعْرِضِ بَيَانِ حُجَجِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي دَعْوَاهُمْ مَنْعَ الِاجْتِهَادِ.
.تفسير الآية رقم (52):
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}.مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُهُمْ لِفَوَاتِ وَقْتِ نَفْعِهِ، الَّذِي هُوَ مُدَّةُ دَارِ الدُّنْيَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} الْآيَةَ [7/ 53]. وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [19/ 38]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، أَنَّى تَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِبْعَادِ هُنَا، وَالتَّنَاوُشُ: التَّنَاوُلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خُصُوصُ التَّنَاوُلِ السَّهْلِ لِلشَّيْءِ الْقَرِيبِ.وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ كُلَّ الِاسْتِبْعَادِ وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ، أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكُفَّارُ الْإِيمَانَ النَّافِعَ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَمَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ وَقْتَ إِمْكَانِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ الِاسْتِبْعَادُ لِرَدِّهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى لِيُؤْمِنُوا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ، وَمَنْ أَرَادَ تَنَاوُلَ شَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
.سُورَةُ فَاطِرٍ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
.تفسير الآية رقم (1):
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} الْآيَةَ.الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ: جَمِيعُ الْمَحَامِدِ ثَابِتٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَقَدْ أَثْنَى جَلَّ وَعَلَا عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْحَمْدِ الْعَظِيمِ مُعَلِّمًا خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، مُقْتَرِنًا بِكَوْنِهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، مَعَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ بِخَلْقِهِمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ، وَلِإِنْعَامِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمَا، وَكَوْنِ خَلْقِهِمَا جَامِعًا بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ. أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ حَمْدَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِكُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} الْآيَةَ [6/ 1]، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [34/ 2]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [1/ 2]. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [26/ 23- 24]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [37/ 181- 182]، وَقَوْلِهِ:
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [39/ 75]وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ لِلْحَمْدِ عَلَى خَلْقِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى خَلْقِهِ، بِأَنْ سَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [45/ 13]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} الْآيَةَ [14/ 33]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [7/ 54].وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} الْآيَةَ [15/ 17].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [22/ 75].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمُبْدِعِهِمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ.وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَيْ: بَدَأْتُهَا.
.تفسير الآية رقم (2):
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} الْآيَةَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَا يَفْتَحُهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ كَائِنًا مَا كَانَ أَنْ يُمْسِكَهُ عَنْهُمْ، وَمَا يُمْسِكُهُ عَنْهُمْ مِنْ رَحِمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يُرْسِلَهُ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، وَالرَّحْمَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَرْحَمُ اللَّهُ بِهِ خَلْقَهُ مِنَ الْإِنْعَامِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، كَفَتْحِهِ لَهُمْ رَحْمَةَ الْمَطَرِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [30/ 50].وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [7/ 57]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} الْآيَةَ [42/ 28]، وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِرْسَالُ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [28/ 86]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الْآيَةَ [18/ 65].وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [10/ 107]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} الْآيَةَ [48/ 11]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} الْآيَةَ [33/ 17]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [6/ 17]، وَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ} [35/ 2]، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُمْسِكْ شُرْطِيَّةٌ، وَفَتْحُ الشَّيْءِ التَّمْكِينُ مِنْهُ وَإِزَالَةُ الْحَوَاجِزِ دُونَهُ، وَالْإِمْسَاكُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
.تفسير الآية رقم (3):
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ}. الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، إِنْكَارِيٌّ فَهُوَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ.وَالْمَعْنَى: لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [13/ 16]. وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [25/ 3]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّازِقُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ تَعَالَى.وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [67/ 21]،وَقَوْلِهِ:
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [29/ 17].وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَسْلِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ مَا لَاقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ لَاقَاهُ الرُّسُلُ الْكِرَامُ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [6/ 34]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [41/ 43]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكَهْفِ:
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} الْآيَةَ [18/ 50].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [22/ 4].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [6/ 33]. وَفِي الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} الْآيَةَ [18/ 6]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
.تفسير الآية رقم (9):
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ إِحْيَاءَهُ تَعَالَى الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمُشَاهَدِ فِي دَارِ الدُّنْيَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ، قَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالنَّحْلِ، وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِحَالَةُ عَلَيْهِ مِرَارًا.
.تفسير الآية رقم (10):
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَإِنَّهَا جَمِيعَهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلْيَطْلُبْهَا مِنْهُ وَلِيَتَسَبَّبْ لِنَيْلِهَا بِطَاعَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَهُ أَعْطَاهُ الْعِزَّةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ لِيَنَالُوا الْعِزَّةَ بِعِبَادَتِهَا، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، فَإِنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ وَعَمًى عَنِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ مِنْ مَحَلِّ الذُّلِّ.وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [19/ 81- 82]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [4/ 139]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [10/ 65]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} الْآيَةَ [63/ 8]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [37/ 180]، وَالْعِزَّةُ: الْغَلَبَةُ وَالْقُوَّةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُحْتَشَى ** إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزِيزَاأَيْ: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [38/ 23]، أَيْ: غَلَبَنِي وَقَوِيَ عَلَيَّ فِي الْخُصُومَةِ.وَقَوْلُ مِنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ، أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ أَصْوَبُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} الْآيَةَ. قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، مَعَ إِعْرَابِ السَّيِّئَاتِ.وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِنْ مَكْرِهِمُ السَّيِّئَاتِ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ وَأَمْرَهُمْ أَتْبَاعَهُمْ بِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [34/ 33]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [71/ 22- 23]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}. قَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [22/ 5].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [13/ 8]، مَعَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآيَةِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}. قَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [33/ 72]. وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [25/ 61].